الثلاثاء، 14 يناير 2014

سأم باريس - بودلير

لم يستغرق معي الأمر وقتًا طويلاً لأُفكر في مدى تقصيري في التواجد هُنا، وفي رغبتي الرئيسة في التمسك بالكتابة المستمرة حول الأشياء، كل شيء وأي شيء، ربما لا يلاحظ احد شيئًا جدي وذِي قيمة، وربما لن يلاحظ أحد، وربما كل شيء بلا جدوى.. لكني أُريد أن اكون هُنا وبقوة.. أريد أن أقف لحظة لأستعيد عقلي ورغبتي في قول أشياء.. مجرد أشياء..

أعارني "سأم باريس" لم أتردد وقرأته بعدها بيوم وانهيته في اليوم الذي يليه، ومرّت الأيام ولم أكتب شيء ولو في رأسي عن بودلير وعن سام باريس، ولماذا كان "سأم باريس".. أردت الاقتباس بشدة لكن تلاحق الأيام كان عائق أمام قلمي الرصاص وأمام عقلي.. أين كنت أنا من كل ما يحدث؟ أين رغبتي في الاستمرار؟ ولماذا رغبتي المستمرة في الانتهاء فقط من اللحظات الحالية..
لا يهم.. سأسرد بعضٌ من سأم بودلير، أو سام باريس حتى أغفو على "الكيبورد" أو حتى يُصاب أحدنا بالـ"سأم"..


"أتعرفين ذلك الداء المحموم الذي يفترسنا في التعاسات الباردة، ذلك الحنين إلى بلد نجهله، عذاب الفضول؟ إنه بلد يشبهك، حيث كل شيء جميل وثري وهادئ ولائق، حيث الحياة عذبة يلذ استنشاقها، حيث الغبطة قرينة للصمت. إلى هناك تحديدًا يجب الذهاب للعيش، إلى هناك تحديدًا يجب الذهاب للموت!
أجل، إلى هناك تحديدًا يجب أن نذهب لكي نستنشق ونحلم ونطيل الساعات بلا نهائية الأحاسيس.. موسيقيّ ألّلف الدعوة إلى الفالس، فمن الذي سوف يؤلف الدعوة إلى السفر، التي يمكن أن تُهدى إلى المرأة المحبوبة، إلى الأخت الأثيرة؟"
*
"كوني إذًا غير مثاليّة، أيتها البائسة حتى أتمكن من حُبك دون ضيق ودون سخط"
*
"ثم طلبوا زجاجات خمر جديدة لكي يقتلوا الوقت الذي يجعل الحياة جد قاسية ولكي يزيدوا سرعة الحياة التي تنساب بهذا البطء الشديد".
*
"يستمد المُتجوّل الوحيد والمتأمل نشوة فريدة من هذا الاجتماع الشامل، من يقترن بالحشد بسهولة يعرف مسرات محمومة، لن يتمتع بها أبدًا الأناني، المقفل كصندوق، الكسول، الحبيس كحيوان رخوي.. إنه يتبنّى جميع المِهن وجميع المسرات وجميع ألوان البؤس التي تعرضها الظروف عليه."

السبت، 6 يوليو 2013

صورة دوريان غراي

"صورة دوريان غراي" لأوسكار وايلد: من معجزة الحياة إلى فضيحتها
إبراهيم العريس
كتبها في جريدة الحياة اللندنية السبت ٢٩ يونيو ٢٠١٣
«ثورة القرن التاسع عشر على الأدب الواقعي هي ثورة كاليبان حينما يرى وجهه في المرآة. وثورة القرن التاسع عشر على الأدب الخيالي هي ثورة كاليبان حينما لا يرى وجهه في المرآة. الحياة الأخلاقية تمثل بعض مادة الفن. ولكن أخلاقية الفن تأتي من كمال التعبير على رغم نقص أداة التعبير. ما من فنان يريد اثبات نظرية ما، فالحقائق وحدها هي التي يمكن اثباتها(...). أداتا الفن: الفكر واللغة. ومادتا الفن: الفضيلة والرذيلة(...). للفن ظاهر مكشوف ورمز خفي. من يتجاوز الظاهر يجازف بكل شيء، ومن يفهم الرمز يجازف بكل عزيز. الفن ليس صورة الحياة، بل صورة ذاك الذي يستعرض موكب الحياة...». بهذه العبارات، بين عبارات أخرى مماثلة، قدّم الكاتب أوسكار وايلد في العام 1891، لأول طبعة - في كتاب - ظهرت لروايته التي كان نشرها في مجلة أميركية قبل ذلك بعام، وهي روايته الأولى والأخيرة «صورة دوريان غراي»، فهو، إذ كتب المسرح والشعر والنقد، لم يكن كبير الاهتمام بالفن الروائي كما يبدو. بل حتى حينما نشرت هذه الرواية قال نقاد كثر أن موضوعها ليس جديداً، مذكّرين بأعمال لأونوريه دي بلزاك وإدغار آلن بو، تماثلها موضوعاً وسابقة عليها. لكن وايلد لم يأبه لمن قال هذا، إذ إن غايته - التي لم يتوان عن إعلانها بنفسه على أية حال - لم تكن كتابة رواية، بل توضيح فكرة ومذهب في الفن... ولربما كانت غايته أيضاً التعبير عن ذاتيته التي كانت شديدة الحضور في حياته، وكذلك تقديم صورة سلبية عن الزمن الفكتوري الذي كان يناهضه بصفته واحداً من كتاب «عصر الانحطاط الإنكليزي». ويقيناً ان أوسكار وايلد نجح في مراميه هذه كلها، من خلال هذا العمل الفذ، هذا العمل الذي أراد، أولاً وأخيراً، أن يثبت من خلاله أن ليس ثمة بين الكتب، كتباً أخلاقية وأخرى منافية للأخلاق... لأن الكتب إما أن تكون جميلة التأليف وإما رديئته لا أكثر ولا أقلّ.
> تحدثنا هذه الرواية، التي اعتبرها كثر حكاية فلسفية، أكثر منها رواية أدبية، عن دوريان غراي، الشاب الثري والفائق الحسن، الذي آلى على نفسه أن يعيش حياته مبجّلاً للذة والجمال، بمعناهما الأكثر رومانطيقية. وذات يوم يهديه صديقه الرسام بازيل هالوارد لوحة رسمها له، وقد عبرت خير تعبير عن جماله وشبابه وبهائه. وأمام مرأى صورته على هذه اللوحة يحس دوريان بغصة وبألم إذ واتته أفكار عن المرور السريع للزمن، هذا الزمن الذي يعجّل عادة بمجيء الشيخوخة، مدمّراً شبابنا وجمالنا. وهنا يعبّر دوريان بطريقة ما عن أمنيته بأن يحفظ الزمن له جماله وشبابه كما هما، وأن تتحوّل شيخوخته الى ملامح صورته. فتشيخ اللوحة مكانه حاملة كل آثار الحزن والعنف والرذيلة التي كان يجب أن تحملها ملامحه الخاصة. وتتحقق له أمنيته، بمعجزة ما، إذ ان اللوحة التي يخبئها دوريان غراي في مكان سري من قصره، تحمل عنه كل الأعباء وتعكس على ملامحه فيها جرائمه ورذائله ومرور الزمن، أما هو فإنه يبقى شاباً جميلاً بهياً مدهشاً. وهكذا يقيّض لدوريان غراي أن يعيش حياته كما يحلو له، ينصرف الى ملذاته، مع صديقه اللورد هنري ووتون، المتهكم الذي - هو - يشعر بوطأة الزمن بالطبع مدهوشاً دائماً أمام صديقه الشاب أبداً والجميل على الدوام. ودوريان لفرط انصرافه الى أنانيته، يتجاهل حتى حبّ خطيبته سيبيل له. انه لم يعد راغباً في حب هذه المرأة التي ستعبر سريعاً في حياته، ولم يعد راغباً في ضعفها وهشاشتها وخوفها الدائم على حبهما... وهكذا يتخلى عنها من دون رأفة دافعاً إياها الى الانتحار. أما صديقه الرسام بازيل، الذي يرصد سلوكه ورذائله ويبدأ يحدثه عنها حديث اللائم، فإن مصيره يكون القتل على يدي دوريان، حينما يقيّض له أن يرى اللوحة المخبوءة... ويذهل أمام التطور الذي راح يصيب هذه اللوحة. والحال أنه منذ انتحرت سيبيل ودوريان غير مبال بانتحارها، ظهرت أول ملامح القسوة على شفتي دوريان في اللوحة... ثم بالتدريج بدأ الوجه يحمل علامات تعكس تطور حياة دوريان غراي. وكانت تلك هي اللحظة التي شاهد فيها بازيل، راسم اللوحة، نتيجة ذلك على هذه الأخيرة. فلا يكون من دوريان، في لحظة رعب هستيرية، إلا أن يقتل بازيل، وبسرعة تعكس اللوحة مشاعر دوريان إزاء الجريمة التي اقترفها. وهنا يبدأ دوريان بالقلق إذ إن اللوحة تبدأ بتذكيره بالخدعة التي يعيش فيها، مزدوج الحياة... وتضع له اللوحة أمام ناظريه وجهه الحقيقي، البشع والعجوز والذي لا يعرف عنه الآخرون شيئاً. وإذ تتصاعد مشاعر القلق والرعب والجنون داخل دوريان كلما نظر الى اللوحة أكثر وأكثر... يشعر أن هذه اللوحة، لا وجهه الشاب، هي حقيقته، وينتهي به الأمر الى طعن اللوحة بالسكين راغباً في التخلص منها، فإذا به يسقط هو ميتاً وكأنه وجه الطعنة الى نفسه، مطلقاً صرخة كانت من القوة الى درجة انها ايقظت الخدم الذين هرعوا مرعوبين ينظرون الى ما يحدث. وفي تلك الأثناء حاول شرطي دخول البيت لكنه تراجع «وفي داخل البيت كان الخدم المذعورون في ملابس النوم يتهامسون، وكانت مديرة البيت العجوز مسز ليف تبكي وتعصر يديها عصراً، وكان الخادم فرنسيس شاحباً شحوب الأموات. وبعد ربع ساعة خف الحوذي وأحد الخدم الى فرنسيس وصعدوا جميعاً الى الغرفة العليا بخطى واجفة، وطرقوا الباب فلم يجبهم مجيب، وحاولوا أن يقتحموا الغرفة عنوة ولكن الباب كان عنيداً. فلما يئسوا تسلقوا الى السطح ومنه الى الشرفة ودفعوا النوافذ فلانت مزاليجها البالية «فماذا رأوا؟»...حينما دخلوا الغرفة شاهدوا على الحائط صورة رائعة لسيدهم، وقد سجلت جماله الفذ وشبابه الناضر. وعلى الأرض شاهدوا رجلاً ميتاً في ثياب السهرة وقد غارت في قلبه مدية. وكان الرجل مغضن الوجه يابس البدن كريه الملامح. ولم يتبينوا هويته إلا بعد أن فحصوا الخواتم التي كان يلبسها». إن الحياة، في نهاية الأمر، الحياة وواقعها مهما كان شأنه، كان هما من انتصر على دوريان غراي وعلى أمانيه.
> حينما نشرت رواية «صورة دوريان غراي» كان لها صدى كبير وضجة صاخبة. من ناحية بسبب موضوعها، الذي كان جديداً - على رغم السوابق التي تحدثت عن موضوع ازدواج الشخصية -، ومن ناحية ثانية وأهم، لأنها أتت لتوقظ فضول الجمهور الذي «في وجود وصورة دوريان غراي المملوءين بالرذائل، أراد أن يرى صورة لأوسكار وايلد نفسه» كما قال النقاد. وفي الأحوال كلها اعتبرت هذه الرواية الأكمل والأقوى بين كل ما انتجه أدب «الانحطاط الإنكليزي» في ذلك الحين، أي خلال العصر الفكتوري الذي كان من الواضح أن أوسكار وايلد انما أراد أيضاً أن يجعل من هذه الرواية واقعة عنيفة وجريئة ضده، وضد آدابه البورجوازية التي كانت تريد لنفسها أن تكون وعظية تعليمية دون هوادة.
> والحقيقة ان هذا كله كان صحيحاً. فأوسكار وايلد (1854 - 1900) انما أراد من هذه الرواية - حتى وإن طغى عليها تيار مذهب الفن للفن - ان تكون سلاحاً آخر في المعركة العنيفة التي كان يخوضها ضد الملكة فكتوريا، «غريمتي الكبرى» كما كان يقول، وضد عصرها المتزمت، مؤكداً ان الحدود التي تفصل بين الخير والشر حدود واهية، كما ان الحدود التي تفصل بين الفن والحياة، لا يمكن لها إلا أن تكون حدوداً مصطنعة. ووايلد عرف عند الزمن الفاصل بين القرنين الأخيرين، بجرأته ومعاركه التي خاضها، وخصوصاً بمسرحياته التي طالما عانت من مشكلات مع الرقابة الفكتورية وغير الفكتورية، ومنها «مروحة الليدي وندرمير» و»سالومي» و»أهمية أن تكون جاداً» و»الزوج المثالي» وغيرها.

**
اقتباسات من الرواية:


“الخير هو انسجام الإنسان مع نفسه. والفوضى هي اضطرار الإنسان للإنسجام مع الغير.. إن حياة الإنسان هي كل ما له في الوجود! أما حياة الجيران فليست من اختصاصنا! وإن كنا نظهر اﻻهتمام بها من باب النفاق اﻻجتماعي! أو من باب التدين الشديد. ثم إن للفردية غاية سامية هي ضمان التقدم! ولقد أصبح المقياس الحديث في اﻷخﻻق قبول مقاييس العصر الذي نعيش فيه! أما أن أقول إن قبول مقاييس العصر الذي نعيش فيه عمل مناف لﻷخﻻق وخطأ ﻻ يغتفر ﻷي رجل مثقف.”

“اللذة عندي هي أن أتعبد لكائن ما.”

“وما النفاق إﻻ وسيلة تتعدد بها شخصياتنا. مهما يكن من شيء، فقد كانت هذه فلسفة دوريان جراي.”

“إن منشأ احترامنا للآخرين هو خوفنا من أﻻ يحترمنا اﻵخرين، وأساس التفاؤل هو فزعنا من الكوارث ﻻ أكثر وﻻ أقل. وإذا أحسنا الظن بجارنا نسبنا إليه من الفضائل ما قد يعود بالفائدة علينا، فنحن نمتدح مدير البنك لعله يقرضنا بعض المال، ونصف قاطع الطريق بالبطولة لعله يتجاوز عما في جيوبنا. إنما قصدت كل كلمة قلتها يا بازيل، وأنا احتقر التفاؤل احتقارا ﻻ حدود له.”

“ما أشبه الخضوع ﻷفكار الغير بالعبودية، وما أشبه إخضاع الغير ﻷفكارنا باﻻستعباد. إن التأثير في الغير يكسب الإنسان إحساس بالقوة ﻻ نظير له في الحياة. فما أجمل أن تمتد الروح إلى الخارج وتسكن في جسد آخر، ولو للحظات معدودات. وما أجمل أن يسمع المرء آراءه ترتد إليه كرجع الصدى دافئة بنفس الشباب حلوة بإيقاع الحنون. وما أجمل أن يمتزج الطبع بالطبع امتزاج السائل السحري بالسائل السحري أو امتزاج العطور. إنها لذة ﻻ تساويها لذة، ولعلها كل ما بقى لنا من مباهج الحياة في هذا العصر السوقي المحدود، هذا العصر الغليظ الذوق الرخيص اﻷهداف الساعي وراء أفراح الجسد وحدها.”

“إن النساء كما وصفهن ذكي من أذكياء فرنسا يلهبن فينا الرغبة في القيام بروائع اﻷعمال ثم يمنعنا من تنفيذ هذه الرغبة”


الخميس، 13 يونيو 2013



- الحاجز يكبر، لا أستطيع أن أعبّر أو أن أريك كم أنا سعيد.. أعلم أنه أنتِ، ولكنني لا أستطيع بلوغك، هل تفهمين؟
- أفهم جيدًا..
- أنا خارج ذلك الحاجز عليّ أن أترك نفسي خارجًا.. لقد هربت.. أنا الآن بعيد جدًا
- أعلم كم هو غريب هذا الشعور
- نعم إنه غريب.. أود أن أكون دافئًا.. حنونًا.. حيًا.. إنني بحاجة إلى الانتقال، ولكنكِ تعلمين كم أنا خائف..
- إنه أشبه بالحلم، تريد أن تتنقل ولكن لا تستطيع.. ساقاك وذراعك ثقيلة وعصيّة.. تحاول التحدث فلا تستطيع
- أنا خائف من الذل. إنه بؤس سرمدي، لقد قبلت الذل، وتركته يغوص في داخلي.. هل تفهمي؟
- نعم أفهم.
- إن الفشل فظيع، يظن الناس أن من حقهم أن يملوا عليك ما تفعل، وازدرائهم حسن النية.. تلك الرغبة القصيرة للدهس على كل ما هو حيّ
- لا تحتاج إلى...
- أنا ميت. كلا لست كذلك، تلك ميلودرامية. إنني لست ميتًا على الإطلاق، ولكنني أعيش بدون احترام للذات. أعلم إن ذلك يبدو سخيفًا.. سطحيًا. معظم الناس عليهم أن يعيشوا بلا احترام لذواتهم، ذلّ في الصميم، عنف واضطهاد إنهم أحياء. وذلك كل ما يعرفون. إنهم لا يجدون بديلاً حتى وإن وجدوا، لا يحاولون الوصول إليه.. هل يمكن أن يكون الإنسان مريضًا بالذل؟ أم هو داء قد أصابنا جميعًا؟.. نحن نتحدث كثيرًا عن الحرية، أليست الحرية سمّا لكل ذليل؟ أم أن تلك الكلمة هي مخدر يستعمله الذليل ليكون قادرًا على التحمل؟ لقد عشت كذلك في الماضي.. لقد استسلمت، لا أستطيع التحمل أكثر، إن الأيام تمضي، إنني أمتلئ بالطعام، وأتغوط الفضلات، وأنطق بالكلمات.. ضوء الصباح الذي يطلع عليّ كل صباح لأنهض النوم الذي تطاردني فيه الكوابيس أو الظلام المحفوف بالأشباح والذكريات. هل أثار انتباهك يومًا أن الأشخاص الأسوأ حالاً هم الأقل شكوى؟.. وفي النهاية هم هادئون تمامًا، إنهم مخلوقات حية بأعصاب وعيون وأيدي جيوش كاملة من الضحايا والجلادين.. الضوء الذي يشع ويهبط بشدة.. البرد القادم.. الظلام.. الحرارة.. الرائحة.. لقد فات الأوان لكل شيء.. لقد فات الأوان..
.
.
مشهد من فيلم: The passion of Anna

(1969)
الحوار لـ: ماكس فون شادو و ليف أولمان
تأليف وإخراج: إنجمار بريجمان

موت بائع متجول

«موت بائع متجول» لآرثر ميلر: كابوس النجاح الأميركي
كتبها إبراهيم العريس في جريدة الحياة
الإثنين ٦ أغسطس ٢٠١٢

«.... إن من يقرأ مسرحياتي بتأنٍّ أو يشاهدها بانتباه وهي تمثل على المسرح، لن يمكنه منع نفسه من التساؤل حول معنى كلمة واقعية. لقد وصفت منذ بداياتي بأني كاتب مسرحي واقعي، وذلك لأسباب صحيحة ولكن، أيضاً لأسباب غير واضحة في الوقت نفسه. والحقيقة أن أول مسرحية لي لفتت أنظار الناس كانت «كل أبنائي» التي كتبتها بالفعل ضمن إطار تقاليد مسرح هنريك إبسن الاجتماعي. وفي ذلك الحين، أي في عام 1947، كنت أنا نفسي بذلت شيئاً من الجهد كي أدفع الناس إلى الاهتمام بذلك المعلم الذي كان مهملاً خلال المرحلة السابقة. وبما أن النقاد والمعلقين، مثلهم في هذا مثلنا جميعاً، أناس كسالى، لم يجدوا أن من الضروري لهم، طالما أنني وصفت بالكاتب الواقعي، أن ينظروا بدقة إلى أعمالي التالية. وهكذا، لم يدركوا - على سبيل المثال - أن مسرحيتي الثانية «موت بائع متجول» لا تنتمي أبداً إلى تقاليد المسرح الواقعي، بل هي مسرحية أتت لتعبر عن توليفة جديدة قاطعة، بين البعدين السيكولوجي والاجتماعي...».

 كاتب هذا الكلام هو، بالطبع، آرثر ميلر، أحد أكبر كتاب المسرح في أميركا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والذي اشتهر لدى العامة - وهذا تفصيل جانبي طبعاً - بكونه آخر أزواج مارلين مونرو، أكثر مما اشتهر لديهم بكونه كاتباً مسرحياً كبيراً، وضع عدداً من الأعمال التي أحيت المسرح الأميركي وفرضت حضوراً كبيراً في المسرح العالمي. والمهم هنا هو أن آرثر ميلر، تحدث في النص أعلاه، والذي كتبه بعد نصف قرن تقريباً من إنجازه كتابة «موت بائع متجول» عن سوء التفاهم الأبدي الذي يطبع علاقة الكاتب بنقّاده وبمتابعي عمله. والحقيقة أن ميلر يبدو هنا على حق تماماً، إذ نعرف أن أهل المسرح العربي وغيرهم من القراء الهواة لم يستقبلوا «موت بائع متجول» إلا بصفتها «عملاً واقعياً اجتماعياً» يفضح «الحلم الأميركي» على طريقة «شهد شاهد من أهله» مستخدمين هذه المسرحية، كما اعتادوا أن يفعلوا مع كل عمل أميركي إبداعي راديكالي بصفته «فضيحة إضافية للكينونة الأميركية» غير مفرقين بين النقد - مهما كانت مرارته - وبين الرفض الكلي الجذري.
إن من يقرأ «موت بائع متجول» أو يشاهدها تمثل على المسرح (ونقول هذا إذ نعرف أن مسرحيات آرثر ميلر في شكل عام، تبرز مزاياها ومتعتها في شكل متساوٍ سواء قرئت أو مثّلت) يمكنه أن يفهم بسرعة ما يقوله بعض النقاد من أن هذه المسرحية هي على الأرجح «التراجيديا الوحيدة المنتمية إلى القرن العشرين التي حققت نجاحاً كبيراً على رغم أن بطلها إنما هو بطل/ مضاد». ولعل أبرز ما يمكن استخلاصه من هذه المسرحية، وهو العنصر الذي أضفى عليها سحرها وقوتها، هو أن «القيم» التي يسير ويلي لومان - «بطل» المسرحية - على هديها، تشبه إلى حد كبير قيم المجتمع الأميركي، وبالتالي فإن سقوط لومان يعود في الوقت نفسه إلى سقوطه الفردي الشخصي، كما يعود إلى ما له علاقة بسقوط تلك القيم نفسها. ومن هنا، فإن ويلي لومان، بالطريقة التي يعيشها وبالطريقة التي يموت بها، إنما يعبر عن فعل الدمار الذاتي البطيء الذي يعيشه مجتمع نجد فيه كيف أن الوعود الوهمية التي تعدنا بها الدعاية، لا تفسد فقط حياتنا المهنية، بل كذلك علاقاتنا الشخصية، وسط مجتمع بات مهووساً بفكرة النجاح. وهنا، بالتوازي مع تلك الوعود الاجتماعية، ستبدو بلا جدوى أيضاً كل تلك الوعود التي يبذلها ويلي لزوجته ليندا ولولديه هابي وبيف. بالنسبة إلى ميلر، وكما يقول الباحث رونالد هايمان «ليس ثمة ما يساوي قيمة العائلة في حياتنا، بيد أن الفكرة التي توجه ويلي ليمان في تربيته ولديه، تتمحور حول الاستفادة إلى حد أقصى من السحر الشخصي ومن المظهر الحسن»، موفراً لهما كل ذلك الرصيد الذي سيمكنهما، في رأيه، من أن يحققا نجاحاً مهنياً من التجارة: لعبة البيع.
> هنا للوهلة الأولى تبدو المسرحية واقعية تماماً. غير أن مظهرها هذا خداع لا أكثر... إذ إن أسلوب هذه المسرحية المبكرة لميلر، جاء تعبيرياً غارقاً في السيكولوجيا، طالما أن ميلر، حين كتب المسرحية، كان في ذهنه أن يعطى الدور المحوري فيها لـ «فرد عادي» ثانوي الأهمية (ومن هنا اسمه لومان Loman التي يمكن أن تقرأ Low man، أي الإنسان الوضيع بمعنى انتمائه إلى طبقة وضيعة)... ومن هنا قوله لاحقاً بأنه حين رسم ملامح الشخصية كان في ذهنه أن كل الناس يعرفون ويلي لومان هذا. ولكن من هو لومان هذا، وماذا يفعل وما هي مأساته؟
 إنه، كما أسلفنا، الشخصية المحورية في هذه المسرحية التي تتأرجح، أسلوباً، بين الماضي والحاضر، عبر فصول ومشاهد تعبيرية تدور في ذهن ويلي لومان وحوله، ضمن إطار حياته العائلية الضيقة. إنه بائع جوال في منتصف العمر، يطالعنا هنا في أول المسرحية وقد عاد متراجعاً من جولة بيع كان يريدها أن تكون الأخيرة، لكنه لم يكملها، بل رجع إلى بيته مهزوماً. وعلى الفور ندرك أنه كان من المؤمنين العنيدين بتلك الأسطورة الأميركية التي تقول إن «المظهر الحسن يمكنه أن يؤمن النجاح»، وهي الفلسفة التي كان ربى ولديه هابي وبيف عليها. غير أننا سرعان ما سنكتشف أن هابي إنما صار شاباً عاجزاً عن فعل أي شيء ولا يبالي بشيء. أما بيف فإنه هو الآخر يبدو غير قادر على ممارسة أي مهنة على الإطلاق. وهنا، لكي ينسى لومان (والذي يروي لنا هذا كله) إخفاقات حاضره والفواتير غير المدفوعة وتشقق عائلته، ها هو يستعيد أمامنا بعض لحظات الماضي السعيد، أيام كان يشعر بأن ولديه معجبان به. غير أن الذكريات لا تدوم، وها نحن نعود مع ويلي إلى الحاضر، حيث تحاول ليندا، زوجة ويلي، إقناع ابنها بيف بأن يسعى للحصول على بعض المال من مستخدم سابق له، بغية تمويل مشروع يبدو أن ويلي كان يحلم بتحقيقه. وكذلك ها هي ليندا تطلب من ويلي أن يطالب مستخدمه بأن يدبر له عملاً لا سفر أو ترحال فيه. بيد أن بيف يفشل في الحصول على المال المطلوب، فيما يطرد ويلي الآن من عمله. لاحقاً في المطعم الذي يجتمع فيه ويلي مع ولديه قصد الاحتفال ببدايتهم الجديدة، لا يلبث الولدان أن يتركا المكان والوالد ليصطحبا صديقتيهما إلى حفل في مكان آخر، فيما ويلي لا يكف عن الشرب حتى الثمالة. وهو هنا تحت تأثير هذا الشرب، يعود إلى الماضي من جديد، ليتذكر اللحظة الانعطافية التي حدث فيها الشرخ في إيمان بيف بأبيه: كان ذلك في مشهد اكتشف بيف وجود أبيه بصحبة امرأة في أحد الفنادق. بعد هذا المشهد نعود إلى الحاضر، وإلى البيت حيث يحاول بيف أن يتكلم مع أبيه، لكن الحوار سرعان ما يتوقف بين الاثنين فيما يشير بيف إلى أن الوالد قد بنى حياته وحياة ولديه على قيم مزيفة. هنا، على سبيل التوبة، ولكي يقوم بفعل يعبّر عن ارتباطه بعائلته، يقدم ويلي لومان على الانتحار آملاً أن تساعد أموال التأمين على حياته، ولديه وزوجته على الانطلاق في حياة جديدة. وبعد ذلك، في حديثها عن زوجها وهي تبكي على قبره، تخبرنا ليندا أن رهن البيت قد دفع وأنها الآن أصبحت ووالدها «حرين وطليقين». وإذ يحاول بيف في حديث أخير أن يقنع أخاه هابي بالتوجه غرباً يرفض هابي ذلك قائلاً إنه يفضل البقاء لكي يثبت صحة نظرية والده في حلم النجاح.
 لقد كتب آرثر ميلر هذه المسرحية في عام 1949، بعد محاولات سبقتها وكانت أهمها «كل أبنائي» وعلى الفور اعتبرت هذه المسرحية من أعظم إنجازات المسرح الأميركي الحديث وقدمت ولا تزال تقدم من أكبر المسارح ومن كبار المخرجين في العالم كله، كما أن السينما اقتبستها مرات عدة (آخرها من بطولة داستن هوفمان)... ومنذ بروز ذلك العمل، صار ميلر واحداً من أقطاب الثقافة الأميركية ولا يزال، على رغم قلة إنتاجه المسرحي (أكثر قليلاً من دزينة من المسرحيات خلال ثلث قرن)، إضافة إلى كتابته سيناريو آخر فيلم مثلته مارلين مونرو ومثله كلارك غايبل ومرنتغمري كليفت («الجانحون» من إخراج جون هستون). وميلر الذي كتب مذكرات شيقة قبل سنوات في عنوان «منحنيات الزمن» كان يعتبر وجهاً من وجوه الثقافة التقدمية في العالم، منذ وقف أواخر الأربعينات في وجه الماكارثية.



الأربعاء، 12 يونيو 2013

"الليالي البيضاء" لدوستويفسكي: اختصار الحياة وسعاداتها في لحظات مدهشة

"الليالي البيضاء" لدوستويفسكي: اختصار الحياة وسعاداتها في لحظات مدهشة
كتبها إبراهيم العريس ونُشرت في جريدة الحياة بتاريخ
الثلاثاء ١١ يونيو ٢٠١٣

للوهلة الأولى تبدو رواية دوستويفسكي «الليالي البيضاء» بسيطة وذات شخصيات مكشوفة للقارئ تماماً، وفيها أحداث يمكن توقّعها منذ البداية. فما الذي فتن الكثيرين في هذه الرواية القصيرة التي كانت ثاني عمل يكتبه دوستويفسكي؟ ولماذا حفظ هذا العمل الهادئ والحنون فتنته كلها على رغم مرور السنين، وجعل قراء أجيال متعاقبة يقبلون عليه، ومبدعين كثراً يقلدونه أو يقتبسونه في أفلام ومسرحيات؟
 ربما يكون الجواب: بساطة الرواية هي ما فعل هذا كله. وربما أيضاً كون الشخصية التي صوّرها دوستويفسكي في الرواية، شخصية الحالم العاشق الذي لن تعرف له اسماً، والذي يجمع كاتبو سيرة صاحب «الإخوة كارامازوف» و «الجريمة والعقاب» على أنه مستقى مباشرة من شخصية الكاتب نفسه، طالما أن ظروف الاثنين متشابهة، ونظرتهما إلى الحب متشابهة، ومتشابهة كذلك علاقة كل منهما بمدينة بطرسبرغ التي تدور أحداث الرواية فيها على مدى أربع ليالي «بيضاء». ووصف الليالي بالبياض هذا، ومنذ عنوان الرواية، يستجيب في الآن عينه، إلى عاملين: الأول هو ذاك المرتبط بما يُعرف حقاً باسم الليالي البيضاء، حين يطول النهار في شكل غير طبيعي عند بدايات الصيف في تلك المنطقة من العالم، ما يجعل ظلام الليل لا يستغرق سوى ساعتين أو ثلاث، وثانيهما مرتبط بنوعية العلاقة البريئة على رغم ليليتها، العلاقة «البيضاء» التي تقوم خلال تلك الليالي بين بطلي الرواية: الشاب الحالم، والفتاة الحسناء التي يلتقيها ويعيش معها، من طرف واحد كما سيتبين لنا لاحقاً، حكاية حب ساحرة ومؤلمة في الوقت نفسه.
 إذاً، وكما نفهم هنا، تدور رواية «الليالي البيضاء» حول لقاء بين اثنين في زمن استثنائي ومكان استثنائي. ومن هنا، إذا كان دوستويفسكي قد وصف دائماً روايته هذه بأنها «رواية عاطفية» فإن النقاد آثروا أن يصفوها بأنها «فانتازيا رومانسية»، حتى وإن كانوا يُجمعون على أنها تشكل، في حقيقة الأمر، فصلاً من سيرة كاتبها الذاتية. سيرته حين كان في مطلع شبابه ووصل إلى تلك المدينة الغريبة عليه، ليعيش فيها سنوات طويلة من دون أصدقاء، غارقاً في أحلامه حالماً بكل شيء، سائراً على غير هدى في طرقات لا تنتهي يختلط لديه الليل بالنهار. انه كان خلال تجواله، لا يأبه كثيراً بالبشر، بل يهتم بالمدينة، بشوارعها بمبانيها بنهرها بحوانيتها وساحاتها. وهو كان يعرف ذلك كله عن ظهر قلب وبالتفاصيل. وكان يشعر أن هذه العلاقة الحميمة التي يقيمها مع المدينة تغنيه عن العلاقة مع البشر. غير أن إهماله هؤلاء لم يكن يمنعه من أن يخترع لهم، في خياله، علاقات وصداقات وأحزاناً وأفراحاً مسقطاً على بعضهم أحلامه الخاصة وخيباته. وكما كان حال دوستويفسكي الشاب في علاقته مع المدينة، كان حال بطل «الليالي البيضاء» الذي تعمّد الكاتب ألا يكون له اسم. طبعاً، نحن لن نعرف أبداً ما إذا كان دوستويفسكي قد عاش حقاً تلك المغامرة العاطفية التي عاشها بطله، لكننا نعرف أنه يمكن أن يكون قد عاشها لأن إقامة التوازي بين الشخصيتين: الكاتب والبطل، تسفر عن تشابه تام. ثم لأن هذه المغامرة العاطفية نفسها كانت قد رسمت، وإن بأشكال أخرى، في رواية دوستويفسكي الأولى «الفقراء» وسترسم مرات ومرات في روايات لاحقة له.
 غير أن المهم، حقاً، في هذا كله، هو أن بطل «الليالي البيضاء» في علاقته مع أحلامه ومع المدينة سيكون إرهاصاً حقيقياً بولادة الكثير من الأبطال المستوحشين الوحيدين الذين سيملأون جزءاً أساسياً من القرن العشرين، حتى وإن ندر أن كان لأي منهم ذلك البعد الرومانطيقي الذي ميّز بطل دوستويفسكي. وكذلك الاستسلام أمام المصير الذي عاشه وسط أحزانه وخيباته، هو الذي يقول الكاتب على لسانه في آخر فقرات الرواية: «... ونظرت من خلال النافذة فبدا لي المنزل المقابل (لا أدري لماذا) قد دلف إلى الشيخوخة وحال لونه هو أيضاً، وتقشرت أعمدته وصارت جدرانه ضاربة إلى احمرار بعد أن كانت صفراء قاتمة... فإما أن شعاعاً من شمس كان قد شق الغيوم لحظة ثم عاد يختبئ تحت السحب المثقلة بالمطر، فإذا كل شيء يرتد مظلماً قاتماً في نظري. وإما أنني أدركت في طرفة عين آفاق مستقبلي الحزين فرأيت نفسي على نحو ما أنا الآن بعد انقضاء خمسة عشر عاماً على ذلك العهد، وقد شخت في هذه الغرفة نفسها، على هذه العزلة نفسها، مع «ماتريونا» هذه نفسها التي لم تجعلها هذه السنون كلها أكثر رهافة. وقد قلت لنفسي يومئذ: كفاني يا ناستنكا! لا أريد أن أنكأ جرحي بالذكرى. لا لن أحمل غيوماً قاتمة إلى سعادتك المضيئة الساجية. لن أوقظ في قلبك الحسرات بملامات مرة. لا ولن أثير فيه ظلاً خفياً من عذاب الضمير. لن اضطره أن يخفق حزيناً في لحظات سعادتك وهناءتك. لا، لن أجعد الزهرات الحلوة التي ستضيفينها إلى ضفائرك السود يوم تجيئين معه إلى الهيكل للزفاف. لا لن أفعل هذا أبداً! ألا فلتظل سماؤك مضيئة. ألا فلتظل بسمتك مشرقة مطمئنة، وبوركت يا من وهبت لحظة من هناءة وسعادة لقلبي الممتن الذي يعيش في وحشة العزلة!... لحظة بكاملها من سعادة... رباه هل تحتاج حياة إنسان إلى أكثر من هذا؟».
 و«ناستنكا» هي طبعاً الحبيبة التي التقاها بطلنا في أول تلك الليالي البطرسبرغية البيضاء الأربع. حين التقاها، وكان كعادته هائماً على وجهه يتفرس في المدينة وفي المتنزهين عند ضفة النهر، كانت غارقة في اليأس والحزن فعرض عليها، من دون أن يفكر طويلاً، مساعدته وتلقت هي يده الممدودة. وعلى الفور قامت بينهما صداقة صادقة وبدأت هي تحدثه عن أسباب حزنها: إنه حبيبها الذي يعيش في مدينة أخرى بعد أن تركها وهي الآن تنتظر عودته واليأس قد بدأ يتسرب إليها. وخلال الليالي التالية يتكرر اللقاء بين الحالم والعاشقة الحزينة. ولا يفعل الاثنان خلال اللقاءات ثم الكلام... يروي كل منهما للآخر أشياء كثيرة عن حياته. غير أن الفتاة (ناستنكا) تؤثر دائماً خلال الحديث أن تعود إلى سيرة حبيبها الغائب، واجدة في الكلام المستديم عنه عزاء لها، وربما وسيلة غامضة لإعادته إليها. وفي تلك الأثناء يكون شعور الصداقة والتعاطف الذي خامر الراوي تجاهها قد تحول إلى حب عنيف. وهو، ضمن معمعة أحلامه بدأ الآن يحلم بأن تصبح ناستنكا حبيبته، إذ إن هذا الحب الذي أضاء حياته فجأة مثل شمس ساطعة، صار عزاء له كبيراً في وحدته وغربته. صحيح أن ناستنكا أدركت هذا كله. لكنها كانت تعرف في أعماقها أنه حب بلا أمل طالما أنها مشغوفة بحبيبها الحقيقي تنتظر عودته. وهي لا تحاول منع الراوي من أن يحبها، بل سيبدو لنا أنها تستمرئ اللعبة، ببراءة، خصوصاً حين يقوم الراوي بدبج رسائل تريد بعثها إلى حبيبها. وهنا تصبح الرسائل، جزءاً من حبه لها، ويكبر حلمه ووهمه. ولكن في الليلة البيضاء الرابعة، يعود الحبيب الأول بالفعل وتركض الصبية لرمي نفسها بين ذراعيه، فيما صاحبنا الراوي يجد أحلامه كلها وقد تحطمت... فيعود إلى وحدته وإلى فراغه. ذلك الفراغ الذي عرف دوستويفسكي، بعبقريته الاستثنائية، كيف يصفه ويجعل منه محور الرواية الأساسي، من دون أن يأخذ على بطله عجزه البيّن عن التأقلم مع أي واقع يومي، وهبوطه ذلك الجحيم الذي يجعل أحلامه تبتلعه من دون أن تقدم إليه أي عزاء.
 رواية «الليالي البيضاء» التي كان الإيطالي لوتشينوفيسكونتي والفرنسي روبير بريسون من أشهر ناقليها إلى الشاشة الكبيرة، نشرها فيودور دوستويفسكي وهو بعد في السابعة والعشرين من عمره. صحيح أنها يومها لم تحقق ذلك النجاح الذي كان يمكن توقعه لها. لكنها لاحقاً، حظيت باهتمام كبير من قبل القراء والنقاد واعتبرت مؤسّسة للكثير من الأجواء والشخصيات التي رسمها دوستويفسكي في بعض أجمل رواياته اللاحقة. ودوستويفسكي (1821-1881) الذي يبدو هنا في غاية الرومانسية، سيكون خلال العقود التالية من حياته، مبدع أعمال روائية رائعة تفيض قسوة وتختفي منها الرومانسية كلياً مثل «الشياطين» و «الأبله» و «الجريمة والعقاب» و «الإخوة كارمازوف» بالطبع...




الثلاثاء، 23 أبريل 2013

وصف مصر في أدب نجيب محفوظ : ثورة يوليو


وصف مصر في أدب نجيب محفوظ : ثورة يوليو
المؤلف: مصطفى بيومي
طبعة: القاهرة: مركز الأهرام للنشر، 2011
التقييم: 4.5/ 5

**
في الحقيقة لم أتوقع من الكتاب ما يحتويه، ولم أتوقع ذكاء مصطفى بيومي -المؤلف- وإلمامه بأدب نجيب محفوظ من الألف إلى الياء كما يقولون..

هدف المؤلف في البدء -وبشكل عام- كان سرد مدى انغماس أدب نجيب محفوظ في المجتمع المصري من غير شخياته، شخصيات نجيب محفوظ دائمًا مفتاح لكل شيء، الأحداث تجاري الواقع، لكن الشخصيات وتعاملها مع معطيات الواقع، وقفاتها الوجودية والحياتيه هي التعبير الحقيقي عن المجتمع المتعدد الطبقات والعقليات والمعتقدات والتوجهات..
أسلوب مصطفى بيومي رائع، قسَّم الكتاب إلى فصول: علاقة الجيش والمجتمع/ الجيش والسياسة/ التحول الإشتراكي والتأميم/ العدوان الثلاثي/ أزمة الديمقراطية/ المخلصون والانتهازييون.. وغيره.

طول الكتاب تتعثر في شخصيات نجيب محفوظ المختلفة، المربكة في حقيقتها المسالمة في
ظاهرها.. تجد الثوري والارستقراطي والإخواني والثوري من أجل المصلحة والثوري من أجل لقمة العيش والفقير والأفقر من الفقير..
عرض المؤلف كما ذكرت رائع وسلس، وحتى تحليلاته كانت هادئة وذكية وفي محلها..
بظني أن هذا الكتاب ضمن سلسله تتناول الربط أدب نجيب محفوظ والمجتمع، لكن لم يُشار إلى هذه السلسلة في هذا الكتاب..

أنصح بقراءته حتى ولو من باب "القراءة التاريخية للمجتمع المصري بقلم لأديب الوفدي نجيب محفوظ في عهد الثورة، وما تلاها.."

الجمعة، 8 مارس 2013

نساء ماليانو المتحررات


رواية: نساء ماليانو المتحررات
المؤلف: ماريو توبينو؛ ترجمة ناهد محمد عبدالله
ط: دار شرقيات، 2009
تقييم: 2.5 / 5

الرواية مترجمة عن الإيطالية، هي في المجمل جيدة، لا أكثر، ينقصها شيء ما. الترجمة كانت ملتزمة بدرجة كبيرة (كالراهبات بالرواية) لكن شيء ما جعل الأحداث فاترة بمرور الوقت ولا تنتهي.
الشخصيات هي المحور الأهم في الرواية، أما الأسلوب الأدبي والسردي فكان ضعيف وغير متمكن (ورتابة الأحداث ليست سبب يُعول عليه في هذا الأمر).

اقتباسات من الرواية

هي تعلم جيدًا أنها مجرمة وحقيرة، تتلذذ، تتخيل أي جريمة، وهي جبانة إلى درجة أنها لا تجرؤ على أن تشرع في أي منها، مع أن لديها القدرة الجسمانية على هذا والحليف الأكبر: الجمال الذي مازالت تحتفظ به.
لديها خوف مَرَضيُّ من الواقع. تشعر أنها في أمان فقط في مستشفى الأمراض العقلية حيث إن المريضات غير مسؤولات عن أفعالهن ولديهن الحماية الكافية، وهي تتمتع بدرجة ما من المشاعر.
في الخارج، في ذلك العالم المتحرر المخاوف والإغراءات، يجعلونها تطلب المساعدة والرحمة، ولذلك فهي تتفوه بكلمات قاسية، وتتردد دائمًا بين التهديد بالقتل والخوف من تنفيذه.

*

إن قصتنا في الخمسين عامًا الأولى من القرن الحالي هي عبارة عن حروب، ودسائس، وديكتاتوريات، وتيقُّظ ومخاوف، كانت الحياة غامضة بالنسبة إلينا، وغموضها الأكثر في شدة حيويتها لدرجة تستدعي فيها أكبر القوانين، كنا عبيد النفاق، عبيدًا في الظاهر للأشياء المتعارف عليها، كنا نغذي الحرية بشكل مؤقت بمخصبات للحرية التي كانت تظهر مشابهة للعنف في كل مرة وتُشعرنا بالخوف من الطغيان تمامًا.

*
المرضى العقليون متساوون ظاهريًا، كما في الجحيم كلهم معذبون، ولكن كل واحد منهم يصل إلى ذلك المكان جراء حياته التي عاشها هو بنفسه.

*
بدأ الهذيان يصيب رأس تلك ورأس هذه، من واحدة تعتبر نفسها مريضة إلى أخرى كان عليها أن تقنعها بعكس هذا. بينما كانت الأخت الصغرى تعتقد أنها صادقة وتقول لشقيقتها الكبرى: كل شيء زائف. لا فائدة من أن أطل من النافذة، فالليلة هادئة وليس في هذه المكيدة أي صديق.
وكانت تستمتع كثيرًا وهي تقول: وإذا كان كل شيء حقيقي؟

*
ماذا يعني أن يكون الشخص مجنونًا؟ لماذا يُصاب الشخص بالجنون؟ إنه مرض لا يعلم أحد سببه ولا تطوره ولا لماذا ينتهي ولماذا يستمر. وهذا المرض الذي لا نعلم إذا كان مرضًا أطلقت عليه كبرياؤنا اسم "الجنون".

*
من السهل ان يولد الهذيان لدى ضعاف النفس والعقل، بسبب حب قد منعوا من ممارسته. إن الضعيف عقليًا يستمر في عمله وتسير أيامه بكل ملل، ولا ينشفل به أحد، وكل من يحيطون به متعجرفون ويحكمون على مشاعر ضعيف العقل هذا بأنها خالية من القوة ويجب إهمالها وعدم الاكتراث بها.
لا نريد  أن نعتبر أن المشاعر هي الغموض الأكثر تأثيرًا، تلك المشاعر التي تربطنا بشيء إلهي بطريقة خفية، بإله لم نره قط و ولكننا على يقين بوجوده ونخافه.
يتوجه بسطاء العقل بالحديث إلى الله دون أن يعرفوه، ثم يكونون كالحيوانات المتخمة التي تقبع صامته لكي تفهم وتستوعب.
يتبع بسطاء العقل القوانين الأكثر تواضعًا، أي القوانين البدائية، وإذا سار كل شيء طبقًا للقاعدة فإنهم يبقون هادئين ومجهولين طوال الحياة.
وعندما تعوقهم أيضًا تلك القوانين الفقيرة بعد أن يكونوا قد تحملوها طويلاً، فإنهم يُظهرون هذيانًا تلقائيًا، يودعون بسببه مستشفى الأمراض العقلية. هذه الحقيقة معروفة وتعبر عن شر وعجرفة البشر.
يولد المرضى العقليون في كل بلد، ويأتي لدينا هنا في مستشفى لوكا للأمراض العقلية كثيرون من المنازل الريفية البسيطة، وممن يعملون بالحقل الذين مازال بعضهم يحمل على جلده رائحة الحقل القوية، تملأ الدهشة أعيُن هؤلاء المرضى، لماذا حدث هذا؟ لأننا قد حرمناهم من قوانينهم البدائية. إن كنز هؤلاء المرضى هو بشكل مطلق مجموعة المشاعر، تلك المشاعر التي لم تلوثها الخطيئة ولكنها ممثلة في حبهم لأنفسهم وللآخرين.
إن الضعفاء عقليًا وروحيًا يتحدثون مثل الآخرين، هم فقط غير قادرين على تخيل وتنفيذ الخطيئة بوعي.

*
العزلة
كل شخص حبيس أنانيته وفجوره الوحشي، كل شخص ذئب للآخر، وحدتي التي تخيفني..

*
أحد الأشياء المؤلمة للعقل بالتأكيد عندما يكون الهذيان غير واضح وغير محدد علميًا، ولكن نشعر به مثل قوة وحشية، وكلما تم استئصال هذا الهذيان وجد ظروف الحياة، والخروج من العالم الخفي، أي عالم الأحداث الذي لا يحدث به، أي الأحداث تصبح منطقًا وسببًا.